لذا فإنّ ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذمّ هذه الدنيا لا يعود في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب إليها ومحبّتها | وإن أصبح وأمسى والدنيا همه, حمّله الله همومها وغمومها, ووكله إلى نفسه, فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق, ولسانه عن ذكره بذكرهم, وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وقضاء أشغالهم, فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، نسأل الله السلامة والعافية |
---|---|
إذاً إمّا أنّ القلوب لا تؤمن بالآخرة مثل قلوبنا، وإن كنّا نُصدّق بها تصديقاً عقلياً، وإمّا أنّها لا اطمئنان فيها، فيكون حبّ البقاء في هذا العالَم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالَم موجوداً في القلب | فلو لم تكن هذه الأمور الملكية والتغييرات والحركات الجوهرية، الطبيعية والإرادية موجودة، ولو لم يُسلّط الله تعالى على هذه النشأة التبدّلات والتصرّفات، لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حدّ كماله الموعود ودار قراره وثباته، ولحصل النقص الكلّي في الملك والملكوت |
ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة.
فعن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"8 | غير أنّ كلّ امرئ يرى الكمال في شيء ما حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه |
---|---|
فصاحب الشهوة كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها |
فكلّ ما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان بحسب الظاهر من أعمال الدنيا، كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لأمره تعالى به، ولصرفها في وجوه البرّ، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك، فإنّ كلّ هذه الأمور تُعدّ من أعمال الآخرة وإن كان عامّة الخلق يعدّونها من الدنيا.
30وعندها لا يكون له همّ إلا البحث عن الجاه العريض، والشهرة الواسعة، وإن كان على حساب الدين والفضيلة | وآخرون ليس لهم همّ سوى جمع الأموال، وتضخيم الثروات؛ حتى سلكوا في تحصيل ذلك مسالك مشبوهة، وسبلاً محرمة |
---|---|
فأهل الدنيا توهّموا أن ما تصبو إليه فطرتهم من كمال موجود في هذه الدنيا، فانكبّوا لتحصيلها وتعميرها | كذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجّه بنظرة طامعة إلى قطر آخر، بل لو أنّها سيطرت على الكرة الأرضية برمّتها، لرغبت في التحليق نحو الكواكب الأخرى للاستيلاء عليها |
الخطبة الثانية: الحمد لله على ترادف آلائه ونعمائه، والشكر له على سابغ فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
15